د. خالد رمضان
يعطي تتويج الجزائر ببطولة كأس العرب، لأول مرة في تاريخها، دروساً اقتصادية مفيدة جداً، وينعش آمالاً طموحة في إمكانية التحول الاقتصادي خلال العقد الحالي، خاصة وأن الفوز يأتي عقب تحولات سياسية كاسحة فجرتها رغبة شعبية مطالبة بتغيير جذري، واللافت، أن هذا الفوز المستحق جاء في وقته تماماً، وقد يكون مصدر إلهام للجزائريين، حيث يمكنهم محاكاة روح البطولة في شتى القطاعات، وإمضاء إصلاحات اقتصادية تمهد الطريق أمام توفير فرص عمل جيدة للقوة العاملة خاصة من الشباب الذين يتمتعون بنصيب وافر من التعليم.
يقيناً، فقد تسبب نموذج التنمية العتيق في الجزائر الذي تم تطبيقه خلال العقود الماضية بخيبة أمل للشباب، رغم تعليمهم المتميز وزيادة مشاركة العنصر النسائي، وهي فئات تتطلع إلى التمكين الاقتصادي في ظل مرحلة انتقالية عالقة ومضطربة بين التحول من اقتصاد الدولة إلى مربع اقتصاد السوق، بعدما أدت عقود الهيمنة الحكومية إلى تفشي المحسوبية والمحاباة التي أصبحت فيها العلاقات والمعارف أهم من الكفاءة، ولهذا، يصعب الآن على الجزائريين أن يثقوا بسهولة في شفافية الخطط التنموية.
يمكن استخلاص أربعة دورس اقتصادية مستفادة من الفوز ببطولة العرب لتجديد نموذج التنمية في الجزائر، الأول أن كرة القدم تبرز أهمية المنافسة وعوامل السوق، ففي معظم القطاعات يجري التحكم في الأسعار، وتسود الاحتكارات المهيمنة، مما يكبح قدرة رواد الأعمال الوطنيين على إحداث تحول جوهري في الاقتصاد، بالإضافة إلى أنه نموذج مُنفر للاستثمارات الأجنبية، ومع تناقص إيرادات النفط والغاز منذ اندلاع الجائحة، بات من المستحيل الحفاظ على الاقتصاد الذي تهيمن عليه الدولة، ولهذا، لابد من تسريع خطط التنوع الاقتصادي للتعافي من الإدمان التاريخي على قطاع المحروقات.
والواقع، أن كرة القدم تمثل نموذجاً واضحاً على كيفية عمل آليات السوق كمصفاة لكشف رواد الأعمال وتنميتهم، وبلغة الاقتصاد، فإنه لكي تعمل الأسواق بشكل جيد، يجب أن تظل السوق مفتوحة للجميع دون استثناء مما يوسع المنافسة، ونحن نرى كيف تمنى فرق الكرة بالهزائم حين تعجز عن إدارة مواردها البشرية، وبالمثل، فإن الاقتصادات التي تزدهر فيها الشركات الاحتكارية تفتقر إلى الديناميكية المطلوبة والقدرة على خلق الوظائف الجيدة.
والدرس الثاني هو أهمية استقطاب المواهب، فقد استطاع المنتخب تجميع أفضل اللاعبين المحليين والمحترفين، وللأسف، فإن الجزائر تعاني شأنها شأن كثير من البلدان النامية من نزيف العقول وهجرة الكفاءات، بالرغم من أنها استثمرت بكثافة في التعليم منذ استقلالها في 1962.
الواقع أن كثيراً من أولئك الشباب المتميزين يسافرون إلى الخارج بحثاً عن فرص أفضل، وهنا، ينبغي الاقتداء بالمنتخب الوطني لكرة القدم، وذلك بالعمل على تهيئة بيئة تجتذب الموهوبين سواء كانوا في الداخل أو في الخارج، فمن شأن تسخير المواهب أن يساعد على زيادة الإنتاجية والنمو الذي هبط معدله دون 2% سنوياً، وهو مستوى يعادل ثلث ما يتطلبه خلق وظائف تكفي لاستيعاب القادمين الجدد إلى سوق العمل، كما أن عودة المغتربين سيتيح الاستفادة من رؤوس الأموال المهاجرة.
أما الدرس الثالث فيتعلق بأهمية القائد، وقد جسد مدرب المنتخب مجيد بوقرة، الذي قاد الفريق في كأس العرب بدلاً من المدرب الأساسي جمال بلماضي، القيادة التي تتسم بالإنصاف لتحويل مجموعة المواهب الفردية إلى فريق متميز ذي قدرات فائقة، وعادة في البلدان النامية لا يتم اختيار المديرين بالشكل الملائم أو لا يجري تمكينهم للقيام بدور قيادي، ولتحقيق نهوض اقتصادي وكما فعلت بفريقها لكرة القدم، يتعين على الجزائر أن تحسن اختيار المديرين في القطاعات الاقتصادية، وذلك على أساس الجدارة والاستحقاق، لا على أساس المعارف والمحاباة، وأن تمنحهم حرية العمل والتصرف والاستقلالية في اتخاذ القرارات، فالمديرون الأكفاء سيعمدون إلى إبدال نهج الحوكمة التقليدي الواصل من القمة إلى القاعدة، بنموذج آخر يبدأ من القاعدة وينتهي إلى القمة، وهذا المنهج قادرٍ على إضافة زخم للنمو الاقتصادي في البلاد.
والدرس الأخير من ملحمة محاربي الصحراء في الدوحة، هو دور التحكيم الكفؤ المستقل والعادل في سلامة المنافسة، وفي الاقتصاد، فإن الحكام هم الجهات التنظيمية المحايدة التي يمكنها الإشراف على الاقتصاد ككل للحفاظ على حرية الأسواق وإزالة الاحتكار، وربما يمكن تفادي أي ردود فعل شعبية مناهضة لفتح الأسواق، وإذا كانت الشعوب تثق في جهاز تنظيمي فإن مرد ذلك إلى تمتعه بالشفافية وضمان المنافسة العادلة، وهنا، يمكن للتكنولوجيا أن تسهم بدور مثلما تفعل في كرة القدم، فتقنية حكَم الفيديو المساعد تتيح للحكم مراجعة اللعبة المثيرة للجدل لتقييم قراره الأولى، ولا شك أن عملية المراجعة هذه تعني أن الحكم ليس حاكماً بأمره أو سيد قراره بل إنه يخضع للمساءلة الفورية، والحال كذلك بالنسبة للقائمين على الجهاز التنظيمي، إذ يجب أن يتحلوا بالشفافية، مما يجعلهم عرضة للمساءلة، ونعتقد أن أمام الجزائر فرصة فريدة لإجراء إصلاحات جريئة وإحداث تحول جوهري للاقتصاد، ويمكنها في هذا الإطار أن تقتدي بفريقها البطل، فهو مصدر الإلهام.
- خبير دولي متخصص في العلاقات الدولية والدبلوماسية